Skip to main content

الإبادة من 1948 وحتى حرب 2023: المقاومة كحل وحيد للردع 

01 أيار 2025
https://qudsn.co/photo_2025-05-01_21-29-37

خاص - شبكة قُدس: منذ اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة في أكتوبر 2023، أُعيد طرح النكبة الفلسطينية، لا كحدث تاريخي معزول وقع في عام 1948، بل كعملية مستمرة ومتعددة الأوجه. هذه الحرب، بكل ما انطوت عليه من عنف شامل وتدمير ممنهج، لم تكن سوى امتداد طبيعي لمسار استعماري طويل، لم يتوقف منذ تأسيس ما يسمى بـ"إسرائيل"، بل تعمق وتكرّس في الوعي والسياسات والممارسات.

تُظهر الحرب على غزة أن النكبة لم تنتهِ، بل تحولت إلى شكل يومي من الهيمنة والعنف والتطهير، تشتبك فيه الأدوات العسكرية مع البنى القانونية والسياسية والديموغرافية. هذه النكبة المتواصلة لا تعني فقط القتل والتهجير، بل أيضاً السعي المنهجي لتفكيك الوجود الفلسطيني، سواء على الأرض أو في الهوية والسردية.

منذ بدايات المشروع الصهيوني، وُظّف العنف كأداة مركزية لفرض الاستيطان، رغم محاولة الخطاب الإسرائيلي الرسمي تصوير تلك المرحلة كزمن من "الاستيطان السلمي" وشراء الأراضي. غير أن الباحثين الفلسطينيين ومؤرخين نقديين كشفوا زيف هذا التصوير، مؤكدين أن العنف كان جوهر الاستيطان.

ومع إعلان قيام ما يسمى بـ"إسرائيل" عام 1948، بدأت سلسلة من القوانين والإجراءات التي هدفت لتكريس تفوّق اليهود على الفلسطينيين داخل ما أصبح يُسمى "حدود الدولة". قانون "أملاك الغائبين" على سبيل المثال، صادَر ملايين الدونمات من اللاجئين. أما قانون العودة، فشرعن هجرة اليهود ومنحهم حق الجنسية، في مقابل إنكار أبسط حقوق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة. وترافق ذلك مع فرض الحكم العسكري على فلسطينيي الداخل حتى العام 1966، ومعهم جُرّدت مدنهم وقراهم من الأرض والتمويل والخدمات.

ومع الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، توسّعت أدوات السيطرة: مستوطنات، حواجز، قوانين مزدوجة للفلسطينيين والمستوطنين، وخلق واقع قانوني منفصل لكل جماعة. هذا التمييز المؤسسي، الذي وصفته منظمات حقوقية دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" كنظام فصل عنصري، عزز من البنية الاستعمارية.

في كل هذه المراحل، بقي العنف حاضراً: من المجازر إلى الاعتقالات، من الإغلاق إلى القصف، من الطرد إلى تجريف القرى. وحتى فلسطينيو الداخل لم ينجوا، فسياسات التهميش الاقتصادي، ومجزرة كفر قاسم، وأحداث أكتوبر 2000، تشي بأن النكبة تجددت في أشكال مختلفة حتى داخل ما يفترض أنه "داخل دولة القانون".

التطهير العرقي: عملية مزمنة

لم يكن تطهير فلسطين عرقياً في 1948 لحظة طارئة، بل كان مقدّمة لمسار طويل. تم تهجير نحو 800 ألف فلسطيني، لكن السياسة التي استُخدمت لتبرير هذا التهجير لم تُلغَ، بل تطوّرت لتناسب سياقات أخرى. بعد 1967، عادت سياسة التهجير بوجوه جديدة: هدم المنازل بحجج إدارية، منع التراخيص، التوسع الاستيطاني، وسلب الأراضي.

إن توزيع الضفة الغربية إلى مناطق (أ، ب، ج) في اتفاق أوسلو مثلاً، لم يكن سوى استمرار لسياسات التجزئة التي تخدم هدف تقليص الكتلة السكانية الفلسطينية والتحكم بها. حتى في القدس، الهدم المتكرر لبيوت الفلسطينيين، وسحب الهويات، تُعدُّ أدوات تطهير بطيء، لا تقل فتكاً عن موجات الطرد الأولى.

وحصار غزة، من جهة أخرى، مثّل وجهًا آخر للتطهير الجماعي. الحصار، بوصفه عقاباً جماعياً، لم يكتف بمنع المواد الغذائية والدوائية، بل سعى لإفراغ القطاع من قدرته على الحياة. وبحسب تقارير أممية، فإن الكثافة السكانية وانهيار البنية التحتية والحرمان من أساسيات العيش، حولت غزة إلى "مساحة غير صالحة للعيش"، وهو شكل حديث للتطهير عبر الإفقار والعزل.

غزة: مجازر حديثة في نكبة قديمة

غزة، بصفتها التجسيد الأوضح للنكبة المستمرة، لم تكن يوماً خارج سياق هذا الصراع التاريخي. ومنذ فك الارتباط عام 2005، ورغم الانسحاب العسكري الرسمي، ظلت "إسرائيل" تحاصر القطاع وتتحكم بموارده وحدوده وأفقه السياسي.

تكررت الحروب: 2008، 2012، 2014، 2021، وأخيراً 2023. وكلها مثّلت محطات دموية في مسار الإبادة الممنهجة. في كل حرب، كانت "إسرائيل" تقول إنها تسعى إلى "ردع" الفصائل، أو "استعادة الهدوء"، لكنها في الحقيقة كانت تؤكد عجزها عن تفكيك جوهر الصراع، وعن إنهاء الحافز التاريخي للمقاومة.

التقارير الإسرائيلية ذاتها تُقر بأن القوة لم تثمر أمناً دائماً، بل أعادت إنتاج دورة عنف تغذيها ذاكرة النكبة، وواقع الاحتلال، واستمرار إنكار الحقوق. وفي وصف دقيق، اعتبر باحثون إسرائيليون أن كل مواجهة مع غزة هي تذكير بأن القضية الفلسطينية لم تنتهِ، وأن حلها لن يكون في مزيد من الطائرات والدبابات.

مقاومة لا تنطفئ

في كل مرة ظنت فيها "إسرائيل" أن بإمكانها إغلاق ملف الفلسطينيين، كانت المقاومة تعود. ليس فقط لأن الفلسطينيين يرفضون الظلم، بل لأنهم يعيشونه كل يوم. منذ الانتفاضات إلى العمليات المسلحة، ومن المواجهات في القدس إلى المسيرات في غزة وأخيرا الطوفان، لم يتوقف الفعل المقاوم.

وما يلفت النظر هو أن المقاومة ليست فقط سلاحاً، بل سردية. كل طفل في غزة اليوم، يحمل ذاكرة عائلته في النكبة، ويتربى على واقع حصار، ويرى في العدوان الأخير استكمالاً لما بدأ في 1948. ولذلك، فإن كل جولة عنف جديدة، هي ترجمة لمعادلة بسيطة: عندما تفشل السياسة، تنفجر الأرض.

المؤسسة الأمنية الإسرائيلية باتت تدرك هذه الحقيقة. فحتى في لحظات التفوق العسكري، لا تشعر "إسرائيل" أنها آمنة. وكل تقارير المراكز البحثية تشير إلى أن "ردع غزة" هو هدف مؤقت، وليس حلاً جذرياً. ولهذا، فإن استمرار المقاومة يُعدّ تعبيراً عن استمرار النكبة.

النكبة كحقيقة سياسية مستمرة

ليس من المبالغة القول إن النكبة ما زالت تحكم تفاصيل الحياة والموت في فلسطين. فهي ليست لحظة عاطفية في الذاكرة الوطنية، بل بنية هيمنة تُعيد إنتاج ذاتها عبر أدوات متعددة: القانون، الجيش، الحدود، الاقتصاد، والمجتمع.

وحين ننظر إلى واقع الفلسطينيين في غزة، والضفة، والقدس، والداخل، والشتات، فإن ما يجمعهم جميعاً ليس فقط اللغة والدم، بل جرح النكبة، وواقعها المستمر. وكل محاولة لعزل غزة عن هذا السياق، أو تقديم النكبة كحدث "انتهى"، هي إنكار لحقائق واضحة، تؤكد أن فلسطين لم تُحرر بعد، وأن الصراع لم يُغلق، وأن العدالة ما زالت بعيدة.


 

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا